مقاربات للسلوك المستقبلي للجيش اليمني
فؤاد عامر
نشر في صحيفة اليقين باسم مستعار وفي موقع الحوارالوطني بتاريخ 1/3/2011م
في إحدى مقابلات الرئيس علي عبدالله صالح التلفزيونية الشهيرة قبل سنوات، لم ينكر الرئيس اليمني بأنه قد جعل مفاصل الجيش اليمني ممسوكة بيده وعبر أقاربه من إخوة وأبناء وعشيرة، و برر ذلك حتى يضمن عدم وجود أية انقلابات ضده، أو على الأقل مواقف ما، كالتي سنراها لاحقا في مصر وتونس وليبيا.
استثمر النظام اليمني كثيرا في تحريف العقيدة العسكرية والأمنية لمؤسستي الجيش والأجهزة الأمنية الضامنتين من حيث المبدأ لأمن واستقرار الوطن والمواطنين أولاً وقبل أي شيء آخر؛ وإذا كان تحريف العقيدة الأمنية من السهولة، بحكم تبعيتها للسلطة التنفيذية، فإن غير المفهوم هو أن يتم الاشتغال على تحريف عقيدة الجيش أيضا بنفس الطريقة التي تم بها تحريف عقيدة المؤسسة الأمنية اليمنية.
فمن المعروف أن الجيش هو آخر حصن للدولة في جميع دول العالم.. فبعد أن تتحلل مؤسسات الدولة المدنية والأمنية والقضائية والدستورية لأية أسباب كانت، فإن الجيش يبقى هو العنوان الأخير الذي يحتمي به الشعب ويبقى رمزا لوجود الدولة، وما ذلك إلا تأسيسا على عقيدة ومسلمات واضحة تقضي بعدم استخدام الجيش في أي من النزاعات الداخلية، وأن سلاح الجيش يوجه فقط للدفاع عن أي تهديد خارجي. فهل- حقيقة- كان الجيش اليمني كذلك؟.
في اليمن حصل تحريف ممنهج وواضح لعقيدة الجيش ووظيفته، وهذا التحريف قاد إلى خلل في ترتيب وأولويات العقيدة العسكرية للجيش، وأصبحت المهمة الرئيسية له - بحكم هذا التوظيف والتحريف- هي حماية النظام وليس الشعب ومكتسباته الوطنية والتاريخية من جمهورية ووحدة وديمقراطية . وكمحصلة طبيعية لهذا التحريف استطاع النظام الحاكم أن يجعل جل القيادات العسكرية الكبيرة موالية له من قادة المناطق والألوية والمعسكرات وعلى امتداد الجغرافيا اليمنية . وإذا كان الجيش اليمني بتركيبته القاعدية هو جيش وطني ومن جميع أنحاء اليمن فإنه ليس كذلك بالنسبة لتركيبة الجيش الفوقية والقيادية والتي اختزلت من لون مناطقي وأسري واحد. ولعل اليمنيون جميعا يدركون من خلال الرصد و المعايشة أنه ما لم يكن قائد هذا اللواء أو ذاك من الدائرة المصغرة المحيطة بالرئيس فإن من المؤكد أن أركان حرب هذه الوحدة العسكرية سيكون من نفس منظومة الحكم الأسرية أو ألمناطقيه على الأقل.
لكن ومع كل ذلك، ما مدى وجاهة رهان الرئيس على ورقة الجيش في حال تنامي الاحتجاجات إلى مستويات أعلى وبخط تصاعدي لن يتوقف- كما تشير إلى ذلك معطيات الواقع؟ فهل حقيقة سيبقى الجيش رهانا فاعلاً بالنسبة للرئيس في سعيه للحفاظ على الحد الأدنى من مكتسباته؟ وهل اليد القابضة على مفاصل الجيش في الظروف العادية ستبقى كما هي عليه في الظروف الاستثنائية والمفصلية؟
بداية نشير إلى أن عقيدة المؤسسة العسكرية في اليمن التي عمل النظام على تحريفها تم توريطها فيما مضى – وحاليا - في نزاعات ومهام بعيدا عن مسئولياتها الوطنية والأخلاقية إزاء شعبها، باعتبارها حارسة للشعب والوطن وليس للنظام المتمثل بشخص الحاكم.. وهناك فرق كبير بين هذه المفردات، عمل الحاكم جاهدا على تقليص الفروق بينها؛ ليغدو الحاكم الفرد هو النظام وهو الدولة وهو الوطن، في تماه عجيب يطبع أغلب ديكتاتوريات العالم الثالث!
والتاريخ القريب يقول لنا أن النظام اليمني الحالي استطاع أن يجعل من الجيش ورقة في اللعبة السياسية اليمنية، ولذلك رأينا الجيش يوجه نيرانه في مناسبات عديدة إلى صدور مواطنيه! فالجيش خاض ستة حروب وجه خلالها السلاح إلى صدور إخواننا في صعدة تحت مبرر الحفاظ على الجمهورية، حسب ما يروج له النظام، ومحاولا إقناع الداخل بأنه يخوض معركة مقدسة.
والجيش منذ العام 2007م وحتى هذه اللحظة - وبسبب إفساده الممنهج من قبل الحاكم والسيطرة على بناه الفوقية - مازال يستخدم ضد الأبرياء العُزَّل من إخوتنا الشجعان في المحافظات الجنوبية في عدن وفي ردفان وفي لحج، وفي كل محافظات الجنوب الغالي.
وقبل ذلك رأينا مناسبات متفرقة استخدم فيها الجيش اليمني ضد ما أسمته السلطة تمرداً داخلياً هنا وهناك، في مأرب وفي تعز ومناطق عديدة، وكان مشهد حضور الدبابات في مناسبات عديدة مشهدا نادرا ما نجده في دولة لديها الحد الأدنى من الاحترام لذاتها.
مشهد رئيس الجمهورية وهو يزور المعسكرات والألوية بشكل دائم- محرضا إياها ضد الخصوم السياسيين- أصبح مشهدا مألوفاً لدى اليمنيين ولا نكاد نرى له مثيلا في أي من بلدان العالم، بل إن وجود مشهد كهذا في دولة ما يجعل من هكذا مسلكيات مدعاة لجعلها جريمة وخيانة عظمي لا يتسامح معها لا الشعب ولا الجيش، أياً كانت الحجج و المبررات التي تقدم لتبرير هذه التصرفات.
نشير كذلك إلى إنه وفي مقابل هذه الخدمات التي قدمها الجيش للنظام، تم السكوت عن ممارسات الكثير من قادة المعسكرات والألوية، وتم السماح لهم بممارسة الفساد وأعمال التجارة، وإطلاق أيديهم في عمل مايشاؤون تجاه المنتسبين لهذه الوحدات العسكرية؛ فقيادة المعسكرات والألوية لا تحكمها القواعد العسكرية والنظامية المهنية قدر ما تحكمها أمزجة القادة، وهذا الوضع أدى إلى نقمة واضحة وملموسة للضباط وأفراد الجيش إزاء قياداتهم، لكن عدم وجود أقنية للتعبير ورفع شكاواهم ويأسهم من ذلك جعل هنالك مخزونا هائلا من الغضب الجوفي داخل أفراد القوات المسلحة سيكون قابلا للانفجار عند أقرب فرصة سانحة، وهو ما يتخوف منه النظام ويدركه جيدا في هذه الأثناء.
السوابق والأخطاء الفادحة في تعاطي الجيش اليمني مع المواطنين جعلت الرئيس صالح مطمئنا بعض الشيء لكون الجيش سيظل ورقة حاسمة وأخيرة في تعاطيه مع رفض شعبه المتنامي له، هذا الشعب الساعي لشرعية جديدة تستند إلى الشارع، بعد أن تأكد للجميع أن الشرعية الدستورية قد أفسدت بحكم الإقصاء المتوالي والتزوير المتعمد لكل الدورات الانتخابية سابقاً، ولم تعد تنطلي عليهم أكذوبة وشرعية صندوق الاقتراع المزورة والمتحكم بنتائجها سلفاً.
وعلى خلفية المعطيات السابقة يحق لنا التساؤل: في حال تصاعد الثورة الشعبية في اليمن التي نشهدها اليوم، إلى جانب من سيصطف الجيش في حال وجهت له الأوامر لتوجيه السلاح ضد أبناء شعبه؟
في الحقيقة، إنه وبرغم تلك المآخذ المذكورة آنفا لسلوك الجيش اليمني، إلا أن الرئيس صالح سيحسب لهذه اللحظة ألف حساب قبل أن يقوم باستخدام ورقة الجيش، وذلك انطلاقا من المعطيات التالية :
- صحيح أن الجيش اليمني ليس لديه الحد الأدنى من الاستقلالية كالجيش التونسي والمصري، لما سبق وأشرنا إليه من محاولات لإفساد قياداته، لكن ينبغي أن ندرك أيضا بأن الشعب اليمني ليس كالشعبين التونسي والمصري. ومعنى ذلك أن الجيش المختطف في عقيدته العسكرية يوجد في مقابله معادل موضوعي له وهو الشعب المسلح في هذه الحالة، وهو ما سيجعل من استخدام ورقة الجيش آخر ورقة يائسة وقد تكون مستحيلة بل وانتحارية لمن يود أن يستخدمها حتى لو كانت التوجيهات مقتصرة على الوحدات القريبة من النظام كالحرس الجمهوري والخاص.
- إذا كان الجيش اليمني في تركيبته الفوقية مختطفا في إرادته من أسرة واحدة، فإن تكويناته الوسطية والقاعدية مازالت غيورة ومنتمية للشعب، وتشعر هي أيضا بالتهميش المستمر لها لصالح الأذرع العسكرية الأخرى كالحرس الجمهوري والخاص وغيرها من التشكيلات التي يقودها الأبناء والإخوة.. وسنرى حركة تمرد واسعة ضد قيادات هذه الألوية والمعسكرات؛ كونهم كغيرهم من أبناء الشعب يعانون من فساد ممنهج داخل معسكراتهم يطال كل شئ، بما فيه مستحقاتهم، وهو ما ساهم في جعلهم أسوأ الطبقات التي تعاني اقتصاديا في المجتمع اليمني .
- استخدام الجيش سابقاً في اللعبة الداخلية أفقده الكثير من هيبته، بحكم أن الجيش قد استخدم ست مرات ضد الحوثيين وضد الحراك الجنوبي ولم يستطيعوا حسم معاركهم معهم، ومن ثَمَّ فإن فكرة استخدامه ضد الشعب لم تعد فكرة مخيفة وجديدة وموفقة في سياق القمع المفترض للمواطنين.
- الإلهام القادم من الثورتين التونسية والمصرية سيشكل فرصة لصحوة الضمير عند الكثير من قيادات الجيش؛ فالجيش اليمني – بأفراده - ليس أقل وطنية من الجيشين التونسي والمصري، وبالتالي فهو لن يوجه سلاحه ضد أبناء جلدته.. وإن حصل وصدرت له أوامر بذلك فإنه سيقابل ذلك بتمردات واسعة وانحياز للجيش نحو الجماهير، على النحو الذي رأيناه في ليبيا من انضمام واسع لتشكيلات الجيش لصفوف الجماهير رفضا لقمع أبناء جلدتهم، خصوصا أن ما سيخسرونه ليس كثيرا في مقابل تسجيلهم لمواقف سيخلدها التاريخ لهم...
إذاً، أمام الجيش اليمني تجربتين: إما تجربة الجيشين التونسي والمصري وهي قطعا ليست في صالح النظام، أو تجربة الجيش الليبي الذي رأينا سلاحه وطائراته قد وجه نحو شعبه، وهو السيناريو المرتجى من قبل النظام اليمني.. لكن خطوة كهذه أيضاً من المؤكد أنها ستخلق انشقاقات واسعة وغير متوقعة في صفوف الجيش، وسيكون التمرد واسعا والعواقب وخيمة باتجاه النظام أولا. وفي سياق احتجاجي متنامي ومتوقع بحكم عدم قبول الرئيس التنحي الآن، فإن علينا أن نكون على تفاؤل كبير إزاء سلوك الجيش اليمني المنتظر.. فهو بحكم كل السيناريوهات المفترضة- وفي المحصلة النهائية- سيكون في صالح الشعب والوطن وليس في كفة الأسرة والنظام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق