ثورة الشباب اليمنية السلمية....
ومقاربة مختلفة للعلاقات اليمنية الاميركية
نشر بصحيفة الاولى العدد 72 بتاريخ 26/3/2011م
فؤاد عامر
ساحة التغيير- صنعاء
أظهرت استطلاعات سابقة للرأي أن الشعب اليمني من أكثر شعوب العالم كراهية للولايات المتحدة الأميركية بل وأكثر حتى من شعوب نالها الكثير من الضرر المباشر من سياساتها كالعراق وأفغانستان وفلسطين, ورغم أن جذور هذا الكره تعود في كثير منها على خلفية التعامل الأميركي مع قضايا المنطقة العربية التي يتفاعل معها اليمنيون بشكل كبير إلا أننا لا نستطيع اختزال هذه الصورة السلبية في الوعي الجمعي اليمني استناداً فقط إلى تلك المحددات فهناك أسباباً مباشرة تتصل بالقراءة الأميركية للحالة اليمنية وطريقة تعاطيها مع الشأن اليمني وكل ذلك راكم صورة سلبية في مجملها لكل ما هو أميركي في الذهنية الشعبية اليمنية.
إلى ماقبل بداية الألفية الجديدة كانت الولايات المتحدة تتعامل مع اليمن في ملفاتها السياسية والأمنية عبر الوسيطين الإقليميين المصري أو السعودي باعتبار ما لهذين البلدين من تأثير مباشر على المشهد اليمني, وعلى خلفية بنية الكيان السياسي الهشة للنظام اليمني الذي لم يتمكن عبر محطاته المختلفة من بلورة مشروع نهضوي وطني يعزز من استقرار اليمن ومن ثم استقلاليته وبحيث يكون قادراً على لعب أدوراً مؤثرة إقليمية ودولية يسندها في ذلك موقعها الجيوستراتيجي وحيوية الشعب اليمني كما تدعم وتشير إلى ذلك حقائق التاريخ والجغرافيا.
بدأ الاهتمام الأميركي المباشر باليمن والتعاطي مع قيادتها بشكل فعلي بعد تفجير البارجة الأميركية كول في أكتوبر من العام 2000م وكانت زاوية التعامل مع هذا البلد باعتباره "تهديدا "حتى هذه اللحظة, واختزلت المقاربة الأميركية بالبعد الأمني والتهديدات القادمة من اليمن, وهو ما فوت بدوره على البلدين قيام شراكات حقيقية ومصالح مستدامة لكلا الطرفين.
زاوية المقاربة الأميركية للمسألة اليمنية أدت إلى اختزال المجتمع والدولة باليمن في شكل الحكم والسلطة القائمة, وذلك تحت اكراهات الحاجة لشراكات دولية واسعة في الحرب على الإرهاب التي تبلورت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وأصبحت هذه الحرب معها مكوناً مفصلياً في العقيدة السياسية والإستراتيجية للولايات المتحدة .... وفي مقابل ماكان يقدمه النظام اليمني من خدمات تم تناسي كل احتياجات اليمنيين المشروعة إلى بناء الدولة الديمقراطية والمؤسسات الحديثة والتنمية المتوازنة.
التقطت الحاجات الأمنية الأميركية من قبل النظام اليمني ليبرم صفقة ضمنية مع الجانب الأميركي تقضي بان تقف الولايات المتحدة إلى جانب (النظام) وتوفر له الغطاء السياسي والدعم المالي واللوجستي وهو غطاء استثمره النظام جيدا فيما بعد لإقصاء العديد من الشركاء في العملية السياسية, وأدى فيما أدى إليه إلى تكريس الدكتاتورية في اليمن والتنصل عن الالتزامات التي قطعها النظام على نفسه منذ قيام الوحدة كتحقيق الشراكة والديمقراطية, وبرز جانب من تجليات هذا الدعم من خلال الدعم السياسي المباشر للولايات المتحدة للنظام في كل الدورات الانتخابية التي كانت تشهد تزويراً واسعا للإرادة الشعبية, وعقب كل انتخابات يمنية معروفة النتائج سلفا كنا نرى رسائل الدعم الأميركية للنظام والحماسة الشديدة لها رغم إدراكها التام بان خيارات الشعب كانت في اتجاهات أخرى لكنها فضلت التغاضي عن تطلعات هذا المجتمع اليمني وحشر نفسها في قمقم السلطة ومصالحها الآنية والمباشرة مع النظام بعيدا عن المصالح الإستراتيجية وبعيدة المدى مع الشعب.
ابعد من ذلك استغل النظام اليمني هذه المعادلة وبمساعدة أميركية بدأ الشروع في بناء مؤسسات لا تستجيب للحاجة الوطنية الفعلية في بناء الدولة وهياكلها, حيث سعى إلى تطوير أجهزة أمنية موازية مثل القوات الخاصة ووحدات مكافحة الإرهاب قدمت على أنها من اجل مكافحة القاعدة وظهر فيما بعد أن هدفها الاستجابة للحاجات الأمنية لنظام بدأ للتو يعد العدة للانقلاب على الجمهورية ولتوريث الحكم, ولقد كانت مفارقة كبيرة أن يبدأ تدشين مشروع التوريث الذي جنى على اليمنيين الكثير من المآسي بالتوازي مع التنسيق مع الإدارة الأميركية في مختلف المجالات.
هنا برزت صورة متخيلة أخرى عن الإدارة الأميركية رسخت بموجبها هذه الأخيرة في الوعي الجمعي اليمني كمتواطئة مع التوريث ومستعدة للقبول به بدلاً من أن تكون رافعة للديمقراطية والدولة المؤسساتية الحديثة التي يتطلع لها اليمنيون منذ عقود.
كذلك وفي سياقات هذه المقاربة الأميركية الأمنية تغاضت الولايات المتحدة الأميركية – متعمدة - عن جرائم كثيرة للنظام في حق الشعب اليمني ليس آخرها السكوت عن آلة القمع الرهيبة التي ووجهت بها الحركة الاحتجاجية السلمية لإخواننا في المحافظات الجنوبية وتم السكوت أيضاً عن الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها هذا النظام خلال حروبه في صعدة... ومر وقت قليل حتى ظهر للولايات المتحدة ومعها الشعب اليمني ان جل مساعداتها الأمنية كانت تستخدم ضد المواطنين الأبرياء في أماكن الاحتجاجات شمالاً وجنوباً وان آلة القتل الأميركية غدت مكوناً هاماً في سياقات قمع النظام اليمني لشعبه.
اليوم لدى الولايات المتحدة مناسبة أخرى وقد لا تتكرر للتعامل مع اليمن باعتباره " فرصةً" وليس "تهديدا", وإسهامات اليمن الديمقراطي والمستقر يمكن أن لا تقتصر فقط في مسارات الحرب على الإرهاب وإنما في استقرار المنطقة والعالم, في المنطقة العربية وفي القرن الإفريقي وفي ملفات غاية الأهمية كالقرصنة وتأمين الملاحة الآمنة وتحقيق استقرار دائم لتدفق النفط في منطقة شديدة الاضطراب ومكافحة المخدرات وغيرها الكثير.. وهذا يتطلب إعادة صياغة للعلاقة بين البلدين يكون في قلب معادلتها الشعب وليس السلطة مع بداية انقلاب موازيين القوى باتجاه الشعوب وليس الأنظمة في المنطقة العربية, ومن أهم الخلاصات التي يجب أن تدركها الولايات المتحدة أن الإرهاب كان نتاجاً للقمع والديكتاتوريات ليس في اليمن فقط وإنما في البلدان العربية ولعلها تدرك هذه الحقائق قريباً مع جلاء هذه الديكتاتوريات ونجاح الثورات العربية, فلن يمض الكثير من الوقت حتى تكتشف الولايات أن الإرهاب إنما هو محصلة طبيعية ومباشرة للاستبداد وان هذه الجماعات الإرهابية إنما تستغل تلك الهوة الواسعة بين الأنظمة والشعوب لمحاولة ملئها وكسب تعاطف مجتمعات مقهورة ومصادرة الإرادة.
ذلك أن السلطات الشرعية والمنتخبة تؤسس بحيث تكون تعبيرا حقيقياً ومقنعاً عن إرادة المجموع, وبوجود أنظمة ديمقراطية ستكون هناك شعوب عاقلة ومسئولة وقادرة على التعبير عن الإرادة الجمعية التي تختطفها السلطات القمعية الحاكمية, وتنازعها في ادعاءات تمثيل هذه الإرادة الجماعات المتطرفة, والوضع سيكون بالتأكيد مختلفاً تماماً في حال عبرت الإرادة الجمعية عن ذاتها بشكل حقيقي دون اختطاف أو ادعاء من احد.
هذه المقاربة ستوفر على الولايات المتحدة الكثير من الكره والنقمة التي يكرسها توفير الغطاء السياسي لأنظمة مستبدة بما يخصم كثيرا من "رصيدها الأخلاقي والقيمي" الذي تدعيه !, بل أن الولايات المتحدة ستوفر على نفسها ملايينها ودولاراتها التي تنفقها سنوياً من خلال الدعم المالي واللوجستي الذي تقدمه لأنظمة فاسدة سخرت جزءه الأكبر في قمع الشعوب, وهذا ما تأكد لنا نحن اليمنيون في ساحات ومناسبات عديدة, من صعدة إلى الحراك الجنوبي ومؤخرا مع المعتصمين السلميين في ساحات التغيير اليمنية الذين شاهدوا الأسلحة الأميركية المخصصة أصلاً لمحاربة الإرهاب تستخدم في قمعهم.
لقد كان مخيبا للآمال أن يقتصر الموقف الأميركي من الثورة الشبابية السلمية في اليمن على مجرد إبداء تعبيرات "الأسف" و"الحزن" على مذبحة يوم الثامن عشر من مارس في صنعاء التي هزت الوجدان اليمني والإنساني , لتتحدث بعدها بأيام عن أن العنف في اليمن "غير مقبول !" وقبل ذلك كله تطلب من المعارضة اليمنية التعاطي مع مبادرة نظام فقد شرعيته وكل مقومات بقاءه, في تكرار غير مدروس لما سبق وحدث في تونس ومصر, لننتهي بعدها الى أسخف تصريحات إدارتها بتاريخ 22مارس التي عبرت فيها عن تخوفاتها من القاعدة والوضع الأمني في اليمن جراء تصاعد الاحتجاجات في اليمن ضد النظام متناسية القضية الكبرى واللحظة المفصلية التي يلتف حولها كل اليمنيين...
وإزاء هذا الغباء المتراكم للإدارة الأميركية في مقاربة أمور المنطقة واليمن والذي نستغربه في ظل وجود جهاز دبلوماسي ضخم ومؤسسات بحثية محترفة, فان هناك فرصة أخيرة وقصيرة لمقاربة أخرى مختلفة حتى تخفف الإدارة الأميركية من بشاعة صورتها أمام الشباب والشعب اليمني, وأولى هذه الخطوات المطلوبة من الإدارة الأميركية أن تقوم فوراً برفع الغطاء السياسي عن هذا النظام وبشكل نهائي خصوصا أن مسلكاً كهذا لن تكون محاذيره وكلفته عالية مقارنة بالحالات التونسية المصرية والليبية.
الخطوة التالية المطلوبة هي الانحياز والتسليم بالإرادة الشعبية التي تتبلور حالياً في اليمن وان تلتقط حاجة اليمن في الوقت الحاضر إلى تطلعات ديمقراطية والى بناء مؤسسات حديثة وتحقيق تنمية حقيقية وجميع هذه الملفات تستطيع الولايات المتحدة أن تسهم فيها بشكل كبير في ظل انشغال وعجز المحيط الإقليمي والعربي في الوقت الحالي الذي يمر بظروف مشابهة ويواجه تحديات كبيرة.
مطلوب اليوم أن تسهم الولايات المتحدة في مساعدة اليمن على استعادة ثرواته وتجميدها والتي استولى عليها النظام السابق أكانت هذه الأموال متواجدة في الولايات المتحدة أم خارجها.
الأيام القليلة القادمة ستكون محورية في تحديد طبيعة التعامل مع الإدارة الأميركية في السنوات المقبلة, وكشاب يمني اقضي ساعات طويلة في ساحة اليمن الجديد الذي يتخلق يوميا في ميدان التغيير بصنعاء, واشهد تبلور أمة ومجتمعاً جديدين, وكإنسان منفتح على الآخر ومتحرر من أية مواقف مسبقة أو عنصرية أو ايديلوجية تجاه العداء لمجرد العداء مع الولايات المتحدة... أدرك أن خطوات كهذه ستسهم ولو جزئيا في قيام علاقات ندية وشراكة حقيقية مع الإدارة الأميركية مع إدراكنا التام أن كل يوم يمر دون قيام الولايات المتحدة القيام بهكذا خطوات لن يجعلها مختلفة في قصر نظرها عن تلك الأنظمة التي تقدم فيها تنازلاتها و"تفهم" شعوبها و"تعي " احتياجاتها ولكن بعد فوات الأوان..!