نحو بناء "المجتمع" اليمني الحديث
الشعب يريد اسقاط النقيب !
الثورة في ابرز تجلياتها تعنى القطيعة الجذرية مع الماضي والشروع في التأسيس لوعي وممارسات جديدة في المستقبل بعد تاريخ الطويل من الممارسات السلبية..., ومسلسل هذه القطيعة نشهد حلقاته بشكل يومي تقريباً في ثورات تونس ومصر التي نجحت في اقتلاع رأس النظام وانتقلت بعدها الثورة الى مرحلة الجهاد الأكبر لتشمل جميع المستويات الدستورية والسياسية والحكومية والاقتصادية والثقافية والإعلامية.., باعتبار أن الثورات فرصة كبيرة لاختصار الكثير من المراحل وتحقيق التراكمات الكمية والنوعية في الانجازات وفي أزمنة قياسية بما لا يجدي معها الإصلاح التدريجي الذي لا ينتمي لطبيعة النهج الثوري بصلة.
لقد كان من المثير للإعجاب في الثورتين التونسية والمصرية أن يتزامن معها ويعقبها جردة حساب عن سابق الممارسات في جميع القطاعات الحكومية وغير الحكومية وفي المنظمات المدنية والنقابات المهنية, ومازلنا نشاهد كل يوم كيف تتم إعادة صياغة العلاقات القائمة داخل هذه التكوينات بناء على أسس سليمة و الشروع في خلق آليات عمل جديدة في بنية العمل النقابي والمدني بعد التهيئة لذلك عبر إسقاط كل القيادات السابقة للنقابات المهنية و العمالية.
في اليمن رأينا كيف افسد الحزب الحاكم - بالتعاون مع الأجهزة الأمنية - كل محاولات بناء جسم مدني ونقابي يكون مؤطراً ومعبراً عن حقوق الفئات المجتمعية المختلفة ومشاكلها ومطالبها, وبغرض الإفساد الممنهج لهذه التكوينات خصصت دائرة معنية بالمنظمات الجماهيرية وبصبغة أمنية واضحة تهدف إلى السيطرة أو على الأقل احتواء كل التعبيرات النقابية والمهنية والحراك المرتبط بها عبر الاشتغال على تزوير إرادة هذه الفئات بالاغراءت والتهديدات تارة ووضع العقبات التي تمكنها من التعبير عن مصالح أفرادها تارة أخرى, ولم تنج من محاولات مسخ هذه المجتمع سوى فئات قليلة وبشكل نسبي مثل نقابات المعلمين واتحادات الطلاب.
ومع كل انتخابات دورية تشهدها نقابة ما مدنية أو مهنية كنا نرى استنفاراً من دائرة المنظمات الجماهيرية التي يتصدرها حافظ معياد وصادق أمين أبو رأس وحمود عباد بهدف السيطرة على الهياكل القيادية لهذه الهيئات, وبعد الانتخابات يتم تكريس آليات للتعاطي مع حقوق ومطالب هذه الفئات تتحدد بمدى ولائها للنظام, ومن ثم وبعد عناء طويل وذليل واستجداء تقدم لها بعض الاستحقاقات باعتبارها "مكرمات" من النظام أكثر منها استحقاق مشروع لهذه الفئات.
الثورة اليمنية التي نشهدها اليوم يجب أن لا تنحصر وتتجه فقط إلى بنية النظام السياسي الحاكم بل ينبغي أن يتزامن معها ثورات صغيرة وموازية في كل الجهات والقطاعات والمؤسسات المدنية والمهنية والنقابية تهدف إلى إسقاط كل رموز الوصاية عليها من الذين تم استخدامهم كأدوات من قبل النظام السابق بغرض إفراغ مضامين العمل النقابي من محتواه, وضمان التحكم بإيقاع حركة قطاعات واسعة من الطبقة المفترض أنها "وسطى" والتي تمثلها هذه النقابات والهيئات, وكل ذلك كان بهدف حرمانها من المشاركة الفاعلة في صياغة القرار المجتمعي المتعلق بقضاياها الخاصة أو العامة والذي استبعدت منه طوال الفترات السابقة.. وهذه المهمة "الثورية" تقع على عاتق كل أفراد هذه الفئات المدنية والعمالية والمهنية, وعليهم عدم الانتظار للسقوط النهائي للنظام كي تقوم بإعادة تأطير نفسها بشكل سليم ومنظم يجعل منها معبرة حقيقية عن مصالح مجموعاتها أولاً وبالنتيجة مصلحة المجتمع والوطن باعتبار أن الجسم النقابي والمدني الحقيقي والسليم هو الضامن والحامل الأساسي لمشروع المجتمع والدولة المدنية حديثة التي اختطفت من قبل القوى التقليدية منذ زمن طويل.
لقد كان من المخري أن نرى في يوم من الأيام من يفترض أنهم نخبة المجتمع المثقفة تتوسل الحاكم وتقدم له طقوس الطاعة والولاء, وإذا كانت حالة كهذه نشهدها في اغلب الدول العربية فإنها كانت تتم من قبل أفراد بعينهم من المنتسبين لهذه النخب, أما أن تذهب القيادات النقابية إلى القصر للقاء "القائد" أو أن تقوم هذه القيادات بتسليم درع المهنة إلى من يقوم بترويضها وقمعها فهذا لم نره إلا في نقاباتنا والأدهى أنها نقابات نخبوية كاتحادات الأدباء والكتاب والصحفيين والمحامين وغيرها من النقابات التي يجمع بينها جميعاً أنها مصادرة القرار لصالح فرد أو أشخاص محددين كما أنها لا تخضع في إدارة مهامها للشفافية المطلوبة في عملها ولعل من غير المصادفة كذلك أن يجمع بين هذه النقابات التحاقها المتأخر بركب الثورة وبعد أن بدأ رجحان الميزان باتجاه الشعب.
الصحفيون والكتاب اليوم من أهم الهيئات المعنية بالقيام بثورة تصحيحية داخل كياناتهم النقابية إذا أرادت أن تعيد بعضا من احترامها أمام "شارع" و"شعب" سبقها بوعيه وتحركاته, وكان من المعيب أن تكون هذه النقابات هي آخر من ينضم لثورة الشعب في حالة بائسة من حالات سقوط المثقف الذي تواطئ مع السياسي فأفسده واغتاله "معنوياً" و"أخلاقيا", وتفاصيل قصص هذا التواطئ مع السلطات وممارساتها معروفة لكل منتسبي هذه الجهات.
فئة أخرى مهمة ونخبوية تعيش وضعاً مشابهاً وهم المحامون والقضاة, فبحكم طبيعة هذه المهنة ذات الرسالة والبعد الإنساني, وفي كل مكان في العالم لا يمكن أن يكون هناك تموضع لهذه الفئة إلا بجانب الناس وحقوقهم المشروعة الفردية منها والعامة, وهم دائماً في صدارة المشهد السياسي والحقوقي المدافع عن الحقوق والحريات ومحاربة الظواهر السلطوية القامعة للمجتمع والأفراد, ودور هذه الشريحة المجتمعية متخلف كثيراً عن ماهو مأمول ومطلوب منها من دور.. ولو قارنا ماتقوم به من ادوار مع ما يجري مع نظيراتها في الدول العربية للاحظنا تراجعاً كبيراً يصبغ عمل هذه النقابات والتكوينات إلا من جهود فردية غير "مؤسساتية" لبعض المحاميين والقضاة هنا وهناك.
القيادة التي تقف على رأس هرم نقابة المحامين هي كما غيرها احد إفرازات العهد السابق الذي ينبغي القطيعة معه, ولعل من الصادم للضمير الجمعي والنقابي والحقوقي أن تكون مخالفة القانون تأتي من بيت القانون ومن رأس نقابة المحامين, فنقيبها الذي بحسب شروط قانون المحاماة يجب أن لا يكون موظفا حكوميا هو في نفس الوقت مديرا عاما للشئون القانونية في مصلحة الجمارك, وقد وقعت في يدي مصادفة مجموعة أعداد من مجلة المحاماة التي تصدرها النقابة ورأيت كيف أن الخط التحريري فيها بنفس ماهو عليه الحال في الصحافة الرسمية التي تعلي من قيمة الفرد وليس المجموع, فكل عمل النقابة – بحسب ما تعبر عنه مجلتهم - منسوب له وبشكل شخصي وليس إلى الهيئة النقابية المؤسسية, فهو الذي يخاطب الجهات كل الجهات, ووحده الذي يظهر في كل مناسبات العمل النقابي وبهيئة يختفي معها أية شكل من إشكال العمل المؤسسي المفترض انه بديهي في هذه النقابة الرائدة, وغيرها الكثير من الممارسات التي لا تليق بصورة من يفترض أنهم دعاة حرية بحكم طبيعة مهنتهم.
قبل ذلك وبما لا يقل أهمية عن ما سبق وذكر, ينبغي النظر إلى وضعية نقابات العمال والتي مازالت مختطفة حتى اللحظة من قبل أدوات النظام الحاكم, ومن يتابع العمل المدني والنقابي يكاد لا يذكر لهذه النقابات أية ادوار حقيقية في تمثيل تطلعات الملايين لهذه الفئة المحورية من الشعب, وهذا ما يتطلب توجهاً فعلياً من كافة الجهات, والحقوقية منها تحديداً في التواصل مع هذه الفئات وتنمية وعيها ومدها بالعون التنظيمي والقانوني اللازم حتى تتمكن من لعب أدوراها المنتظرة والمفترضة في خدمة مصالح منتسبيها ومصلحة مجتمعها.
القائمة تطول في هذا السياق وسنحاول مقاربة جوانبها في مناسبات قادمة, لكن خلاصة حديثنا أن علينا أن نقتنص هذه اللحظات التاريخية لبلدنا كي تقوم كل فئات المجتمع بالعمل المخلص من اجل بناء "مجتمعاتها" المدنية والذي سيشكل بدوره مجتمعنا اليمني المدني ومن ثم دولتنا المدنية الحديثة, وحينها فقط تتكون الأمة اليمنية التي سنفخر بالانتماء لها وبالثورة التي قادتنا إليها .
فؤاد عامر – 30/3/2011م
ساحة التغيير - صنعاء
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق